النبي الأب:
استكمالاًَ لما نُشر بالحلقة الأولى تحت عنوان (دور الأب في تربية الأبناء (1)) بتاريخ 2/4، نلقي الضوء على النبي الأب، لننهل من تعاملاته؛ حيث كان من غير الممكن أن تدخل فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، إلا وينهض ليقبِّلها على جبهتها؛ حتى إنها علمت يوم وفاته بوفاته عندما لم يستطع أن يقبلها لما دخلت عليه.
فانظر إلى النبي مع ابنته، وخاصةً الفتيات؛ لأنها تبحث عن حضن الأب، فإن لم تجده فسوف تبحث عنه خارج البيت، فتندم أنت بعد ذلك على زواجها عرفيًّا! فأنت المسئول- هذا ليس عفوًا للفتيات- ولكن امنحها العطف والحنان والصداقة والقرب منك، فقد كان النبي لا يخرج من المدينة إلا بعد أن يمر على فاطمة أولاً، ولا يعود إلى المدينة إلا ويدخل بيت ابنته أولاً.
انظر إلى النبي الأب الذي يلاحظ ابنته ويهتم بها؛ عندما ذهب إليه علي بن أبي طالب ليخطب يد فاطمة، دخل علي البيت ولم يتكلم، بل ظل ينظر إلى الأرض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما الذي جاء بك يا علي"، فقال: لا شيء يا رسول الله، فقال النبي: "لعلك جئت تخطب فاطمة؟"، فقال: "نعم يا رسول الله"، فقال: "هل معك شيء تتزوج به؟"، قال: قلت: "لا يا رسول الله"، قال: "أليس معك درعك الذي حاربت به؟"، قلت: "نعم؛ ولكنه لا يساوي شيئًا يا رسول الله 400 درهم فقط"، قال: "زَوَّجتُك عليه يا علي بشرط أن تُحسِن صُحبتها".
هذا نموذج للنبي الأب الذي لم يشترط كتابة قائمة بالأثاث، ولم يكتشف أنه لم يشترِ رجلاً في الموقف ككل، ولكن النبي اشترى رجلاً لم يكن يملك الكثير؛ ولكنه رجلاً يلتزم بكلمته وعلم أنه سوف يصونها.
انظر إلى النبي الأب يوم الزواج بعد أن أوصلهما إلى بيتهما، يقول لعلي: "لا تُحدِث شيئًا حتى آتيك"، يقول: "فجلست في ناحية من الدار وجلست فاطمة في ناحية من الدار، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يدك يا علي، يدكِ يا فاطمة"، فأخذ أيدينا..".. انظر هنا إلى النبي الأب، وكيف يتعامل مع أول لحظة لابنته التي يملؤها الحياء، فهو يأخد بأيديهما ويضعهما على بعضهما البعض؛ حتى يزيل رهبة واضطراب اللحظات الأولى ويفعل ذلك بإيمان ".. اللهم إن فاطمة ابنتي وأحب الناس إليّ، اللهم إن علي أخي- انظر كيف يصف زوج ابنته- وأحب الناس إليَّ، اللهم بارك لهما وبارك عليهما واجمع بينهما في خير، يا علي ضع يدك على رأس فاطمة وقل معي: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما هي له، وأعوذ بك من شرها وشر ما هي له، ثم قال: "يا علي، يا فاطمة، قوما سويًّا فصليا ركعتين"، ثم يخرج النبي ويقول عند الباب: "أستودعكما الله وأستخلفه عليكما".
انظر إلى فعل النبي الأب عندما سكن علي وفاطمة بعيدًا عن بيته؛ نظرًا لإمكانيات علي، لم يشترط عليهما السكن بقربه حتى جاء حارثة بن نعمان (وهو رجل غنيٌّ وكان له قطعة أرض بجانب المسجد وكان قد أعطى النبي من قبل قطعة أرض يسكن بها مع زوجاته) وقال: "يا رسول الله، لعلك تشتاق لقرب فاطمة؟"، وكان جميع الناس يعلمون حب النبي لفاطمة، فقال النبي: "نعم، ولكننا أكثرنا عليك يا حارثة"، قال: "يا رسول الله ما تأخذه مني أحب إلي مما تتركه لي، هذه الأرض لك"، فقال له النبي: "ولكن استأذن عليًّا أولاً"، فانتقلت فاطمة بجوار أبيها.
ودخل النبي الأب على فاطمة ذات يومٍ فوجدها وحدها فقال: "أين علي؟"، قالت: "هو غاضب وترك البيت"- مما يدل على أن بيوت الصحابة كانت بيوتًا عادية طبيعية بها مشاكل، ولكن بها ألفة وترابط في نهاية الأمر- فقال النبي: "ابحثوا لي عن علي!"، قالوا: "هو في المسجد نائم"، فترك النبي ما يشغله وذهب لزوج ابنته فوجده نائمًا، ومتقلبًا في التراب من شدة سوء مزاجه على ما يبدو، فكان يوقظه بإزاحة التراب من فوقه قائلاً له: "قم أبا تراب! قم أبا تراب!" فنظر إليه النبي وابتسم- لاحظ أنه لم يسألهما عن سبب خلافهما- وقال: "يا علي دعنا نعود إلى البيت".
يستيقظ النبي الأب ليلاً قبل الفجر ويخرج من بيته متجهًا إلى بيت ابنته ويقول لهما: "يا علي، يا فاطمة، ألا تصلون ركعتين قبل الفجر؟" هذا مثال للنبي الأب الذي يعلم أن الإيمان هو العاصم من المخدرات والزواج العرفي ويشجع أولاده على الإيمان لا الفساد.
هذا هو النبي الأب الذي ذهبت إليه السيدة فاطمة وزوجها يشتكيان، فيقول سيدنا علي: "آه من ظهري!" (من كثرة حمل المياه أثناء عمله) وتقول فاطمة: "آه من يدي!" (من الطحين والعجين) "يا رسول الله أمر لنا بخادم"، فقال: "نحن لا نأكل الصدقة ولكن اسبقاني إلى البيت"، يقول: "فعدنا إلى البيت، فإذا بالنبي قادم بالليل وأنا في فراشي فقال: "مكانكم"، فدخل معنا في الفراش.." لأن فاطمة غاضبة؛ حيث إنه لم يأمر لها بخادم فيجب الآن أن يمنحها حناناً منه لأنه أبٌ حنونُ، "... فدخل معنا في الفراش بيني وبين علي حتى شعرت ببرد قدمه في قدمي وجمع رءوسنا وقال: "يا فاطمة، يا علي، ألا أدلكما على خيرٍ من الخادم؟ تسبحون الله 33 وتحمدون الله 33 وتكبرون الله 34 قبل النوم، يكفيكما الله الخادم"، يقول علي: "فوالله، قوَّانا الله وما تركتها منذ ذلك اليوم، قالوا: "ولا يوم صفّين؟" قال: "ولا يوم معركة صفّين".
في عصرنا الحديث:
مثال آخر لرجل بلغ من العمر 35 عامًا يقول كنت ابنًا في الثانوية العامة، وكان لدوري كرة القدم للمدارس في ذلك الفترة شأن كبير، وصلت فرقتي للمباراة النهائية وطلبت من والدي -الشخصية المهمة- أن يحضر المباراة، كنت حارس المرمى لذلك الفريق وأثناء تدريبات ما قبل المباراة لمحت أبي بين الحضور ففرحت لذلك فرحًا شديدًا، فأشار هو لي ثم جلس وبدأ في الكلام مع من حوله من دون أن يعير اهتمامًا جادًّا بابنه بالرغم من محاولاتي لفت انتباهه والاستعراض بمهاراتي أمامه؛ حتى يصفق لي الناس ويشعر هو بذلك، وبعد 10 دقائق من بدء المباراة جاءه من همس له في أذنه ثم خرج معه.
يقول الابن لقد أتممت المباراة ولكن باكيًا! وما زلت أتذكر هذه الوقعة إلى اليوم، لم أسأله ماذا كان أهم مني ولكنني شعرت أن كل شيء كان أهم مني، تُوُّفيَّ الوالد بعد أن عاش عمره كله مع هذا الابن بهذه الطريقة، فقال له ابنه وهو واقفٌ على قبره: "لم أعرفك! ولم أفهمك! ماذا كان أهم مني عندك؟ لماذا تركتني؟ من أنت؟ أنت أبي وأنا أحمل اسمك!.
قاعدة اليوم الأسرية للتآلف الأسري وعودة التربية لبيوتنا وشبابنا وأولادنا هي "جوهرية دور الأب، فيا أيها الأب لك دور جوهري، فقم بإلغاء التفويض للأم، فأولادك في احتياج منك إلى أوقات أكثر من احتياجهم منك إلى أموال، وأرجو ألا يُفهَم من كلامي أنني أُقَلِّل من أهمية العمل وإنما أطلب منك التوازن.
فالصحابة شاهدوا رجلاً كثير الحيوية والنشاط ساعيًا على رزق أولاده فقالوا: "لو كان هذا في سبيل الله!" فقال لهم النبي: "إن كان قد خرج سعيًا على أطفاله صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان قد خرج سعيًا على شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج ليعف نفسه بالعمل فهو في سبيل الله"، قيمة العمل كبيرة في ظل ظروفنا المادية وإنما المطلوب التوازن.
فقاعدة اليوم هي فكرة جديدة نريد أن نغير بها مفهوم نتبعه منذ سنوات طويلة، ولنكمل معًا في شرح المعاني الثلاث الذين قمنا بذكرهم بمزيد من الحرص على التآلف الأسري وقوة العائلة وجوهرية دور الأب.
دور هام:
ودور الأب الآن أصبح جليًّا ولم يغفله القرآن في التربية إذ إن قول لقمان لابنه وهو يتمم تربيته مع عدم إهمالنا أن كان للقمان الحكيم زوجه لا تقل في تربيتها بحال من الأحوال عن المربية الفاضلة، ولكن كان ولا بدَّ أن يتمم لقمان التربية بموعظته الشاملة للابن والذي يحتاجها من أبيه لا من أمه، ومن هنا كان دور الأب عظيمًا لا نريد أن ننساه.
ونعطي بعض النصائح للأمهات:
لا تكوني حائلاً بين الزوج وتربية الأبناء، ولا تناقشيه في قضية مختلف فيها أمامهم؛ بحجه أن الأولاد صغار لا يفهمون، بل إنهم ينتبهون لذلك جيدًا.
لا تثيري زوجك ضدَّ أبنائه بشكواهم له عند دخوله البيت، بل الأفضل يكون بينكِ وبينه وتتفقا على الحل.
امتدحي مجهودات الأبناء أمام أبيهم وليكمل الزوج بالمكافأة؛ حتى ولو بحضن دافئ.
لا تقبلي منه التفويض، ولكن اقبلي منه أن يكون المدير التربوي للبيت يوقع على كل ورقة تربوية بصورة يومية ومباشرة.
إذا كان الأب داعية وكانت الأم كذلك فالأولى بالدعوة البيت، وكما قالت السيدة زينب الغزالي رحمها الله (الداعية الذي لا ينجح في بيته لا ينجح خارج بيته).
وفي النهاية "كلكم راع وهو مسئول عن رعيته".