بقلم فضيلة الشيخ/ محمد عبدالله الخطيب
أشرت في مقال سابق إلى ضرورة عناية الأم بتربية أبنائها وبناتها تربية تؤهلهم لما سيُلقَى على أعناقهم في مستقبل حياتهم مما لو أهملته لجرَّت عليهم وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه الشقاء، وإني أريد أن أجمل للقائمات على تربية الأطفال الذين هم عدة المستقبل والذين نأمل على أيديهم رفعة الإسلام وعزه- بعض ما يراعينه لتنشئة جيل قوي، قوي في كل شيء، وأسأل الله أن يوفقني لما أريد، فإن للأبناء على أمهاتهم حقوقًا، كما عليهم واجبات، فمن حقوق الأبناء على أمهم أن تعتني بتربية أجسامهم، وتتذكر دائمًا أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، والحق أن هذه التربية تبدأ قبل الولادة؛ لأن ما يصيب الأم من ضعف، وما ينتابها من آلام وتأثرات نفسية له أثره السيئ في الجنين، فيجب أن تعتني بصحتها مدة الحمل، وعليها أن تهتم بنظافة أبنائها وتنظيم غذائهم وتناوله في مواعيد خاصة- ولتعلم أن هذا من صميم الإسلام، فرسولنا- صلوات الله عليه وسلامه- يقول: "النظافة من الإيمان"، ويقول: "الإسلام نظيف فتنظفوا، فإنه لا يدخل الجنة إلا نظيف"، والنظام يبدو واضحًا في صلاة الجماعة، فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج- كما يجب العناية بالرياضة البدنية واستنشاق الهواء الطلق النقي، ولتعمل على أن يأخذ الطفل قسطًا وافرًا من الراحة في النوم، فإن لكل سن عددًا يناسبه من الساعات ينامها الطفل- مبينة في كتب الصحة- وتحاول إبعاد المؤثرات التي تقلق راحته، فإن الإهمال في العناية بالأطفال يضعف صحتهم، فيفقدون المناعة والقدرة على المقاومة، ويصيرون عرضة للأمراض..
ومن حقهم عليها أن تعتني بتربية عقولهم فتهذب مواهبهم، وتُقوِّم أفكارهم، وتغذي عقولهم، وتنمي معلوماتهم، وتُعرِّفهم ما يحيط بهم على قدر إدراكهم، وأن ترقبهم في خلال لعبهم؛ لكي تعرف ميولهم النافعة فتنميها، والضارة فتوجهها توجيهًا صالحًا، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
ومما يستحق النظر في حياة الطفل أنه يكثر من الأسئلة، مستفسرًا عما خفي عليه، مما يستوقف نظره، ويستثير انتباهه، وهذه الأسئلة هي علامة الشغف بالبحث والميل إلى المعرفة؛ بل هي العقل يتحفز للإغارة على الحقائق لاستجلاء غامضها، والوصول إلى كنهها، فيجدر بالأم أن ترحب بهذا الميل، وأن تجيب الطفل عن هذه الأسئلة على قدر ما يقوى عليه فهمه- ولتحذر أن تموه له الباطل أو تكذب عليه في إجابتها، فإن هذا يكون له أسوأ الأثر في تربيته- وليكن للعب نصيب من عنايتها، فاللعب ميدان واسع للتربية وللتهذيب، تتجلى فيه الغرائز والميول، ويُقوِّي النشاط العقلي، فلتمدهم في لعبهم بوسائل التسلية والسرور الموافق لنفوسهم، ولا يفوتها أن ترسلهم إلى المدارس متى بلغوا سن التعليم، ثم تراقبهم لتعرف ماذا اكتسبوا من صلتهم بغيرهم، فإن وجدت خيرًا فلتحمد الله، وإن وجدت غير ذلك فلتعمل على تلافي الأسباب، ومن حقهم عليها أن تعتني بتربية أخلاقهم تربية سليمة، وذلك بأن تكون هي نفسها قدوة حسنة لهم، في أقوالها، وأفعالها وسلوكها، وجميع نظمها الحيوية والمنزلية، فإن كل ما يبدو من الآباء والأمهات ينطبع في الطفل، ويرسخ في نفسه، فيصبح عادة ثابتة وطبعًا متأصلاً، فلتراعِ الأم ألا تنطق أمام أبنائها بما لا يليق من الألفاظ والعبارات، ولتحذر أن تكذبهم في أي أمر من الأمور، ومهما كانت الظروف، فإنها لو كذبت على الطفل مرة واحدة ثم تبينت له الحقيقة، لكان هذا سببًا في غرس تلك الصفة الذميمة فيه، ولتحذر أن يصدر منها من الأعمال أمامهم إلا كل عمل لائق، فيكون أثر أعمالها فيهم أقوى من النصح وأجدى من الكلام، ولتعمل قدر استطاعتها على ألا يكون في سلوكها ما ينافي الذوق السليم، فتكون هي نموذجًا لما يجب أن يكون عليه الإنسان الكامل، ولتعلم أنه من خير الدعائم في تقويم الأبناء وتعليمهم وتنمية شوقهم القصص والحكايات، فإذا اختارتها اختيارًا مناسبًا كانت خير عون على تهذيب نفوسهم وشحذ عقولهم وتقويم نفوسهم.
ومن دواعي الأمن أن بعض الأمهات يتخذن مما يبدر من أطفالهم من لفظ بذيء وعمل مستنكر، سلوة ومسرة وفكاهة، ويبدين السرور، فيكون ذلك سببًا في تمادي الأبناء في هذا النوع من السلوك الذميم، واللهو المؤدي بالخلق القويم، فلتتجنب ذلك الأم العاقلة، وهناك مسألة جديرة باهتمامها، وهي صيانتهم من أن تتسرب إلى عقولهم الأوهام والخرافات التي لا تزال متغلغلة في الأذهان، مسيطرة على عقول طائفة كبيرة من الجاهلين والجاهلات.
ولا يصح أن نتخذ الشدة في المعاملة والقسوة في الإرشاد أساسًا لقيادتهم وتهذيبهم؛ لأن لهذه الشدة آثارها السيئة في التربية، فإنها تدعو إلى التصنع في المعاملة والتظاهر بغير الحق، والتكلف غير المحمود، وتجر إلى الكذب والرياء على أن هذا ليس معناه أن اللين واجب في جميع الأحوال، والشدة لا محل لها في التربية، فلكل منهما موضعه، ومما جاء في نصيحة الرشيد لمعلم ولده الأمين قوله: "ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوِّمه ما استطعت بالقوب والملاينة، فإن [لم ينفع] إياهما فعليك بالشدة والغلظة، ومن حقهم عليها أن تربيهم تربية دينية صالحة فتطبعهم على آداب الدين وقواعده حتى يشربوا في قلوبهم حبه وطاعته، وأن تكون هي لهم خير قدوة في إقامة شعائر الدين، واتباع أوامره، وأن تملأ قلوبهم بسير الصالحين ليهتدوا بهداهم، ولتمرِّن الأم أبناءها منذ صغرهم على إقامة الصلاة، وتعمل على ذلك بكل الطرق الممكنة، فتجعل وسيلتها التشجيع تارة، والمكافأة طورًا آخر، والثناء والمدح مرة أخيرة، فإن لم يُجْدِ ذلك فلتستعمل معهم الحرمان من أشياء يحبونها، فإن هذا مما يؤثر كثيرًا في إصلاح الأطفال، وإن لم تفلح هذه الطرق كلها فلتلجأ أخيرًا إلى العقاب، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإذا كان هذا مع الكبار فكيف به مع الأطفال؟! ولتستعن الأم بكل هذه الطرق- التشجيع والمكافأة، ثم الحرمان والعقاب على غرس كل خلق قويم في النفوس، ولتتجنب التخويف بالعفاريت ونحوها، كما تفعل بعض الجاهلات- فإنها إن فعلت ذلك نشأ أبناؤها على الجبن، يتهيبون كل شيء، ويخافون أن يقدموا على أمر من الأمور، وأحب أن ألفت نظر الأمهات إلى خطأ يقع فيه البعض؛ وهو ثقتهن بأطفالهن ثقة عمياء، كأنهم معصومون من الخطأ، فيصدقن بكل ما يقولونه من غير تأكد من صحة هذا القول، وهذه الطريقة مما يشجع على الكذب والتمادي فيه، ولو أن الأم ناقشت الواحد منهم لتتبين مقدار صدقه لكان أفضل بكثير، فإذا وثقت من أنه لا يلجأ إلى الكذب وتثبتت من ذلك كان لها أن تصدق كل ما يقول، ولتحذر أن تعاقب طفلها إذا أخطأ ثم اعترف بما فعل؛ بل تفهمه أنها أعفت عنه من أجل صدقه، فإنها لو لجأت إلى العقاب بعد الاعتراف لكان هذا سببًا في ألا يصدق بعدها أبدًا، ومتى تعوَّد الكذب هان عليه فعل كل رذيلة، هذا ولا تكون الأم ناجحة تمامًا في التربية الدينية إلا متى أشعرت الأبناء بوحدانية الله وقدرته، وذلك بكل ما تقع عليه أعينهم، وتذكرهم دائمًا بأن كل ما يتمتعون به من نعم فهو من الله المنعم المتفضل، وتعلمهم حقوق الله عليهم، فيمكنها إقناعهم بضرورة شكره سبحانه وتعالى، والاعتراف بالعبودية، فينفذون كل ما أمرهم به طائعين مختارين، ومن حقهم أيضًا أن تربيهم تربية اجتماعية وطنية، وذلك أن تعرفهم ما عليهم من واجبات لغيرهم ممن هم أكبر منهم أو أصغرهم أو مساوون، وبإرشادهم إلى أقوم الطرق في المخاطبة والمعاملة، وأخذهم بالعطف على الصغار وتوقير الكبار، ومعاملة الآباء معاملة حسنة مقرونة بالعطف والاحترام، كما تغرس في نفوسهم حب الوطن، وإني إذ أقول الوطن فإنما أقصد كل بقعة فيها إسلام ومسلمون، وتبين ما كانت عليه الأمة الإسلامية في عصورهم المختلفة من عظمة، وذلك أيام أن كانت تعتز بإسلامها، وأنها ما ضعفت إلا يوم أن ترك أفرادها الإسلام وراء ظهورهم، وتشرح لهم كيف تبذل الأرواح رخيصة لإعادة ذلك المجد القديم.
فإذا أمكنك أيتها الأم أن تراعي ما يجب عليك في تربية أبنائك وبناتك أمكن أن تحظي بوجود ذلك الجيل الحي الذي ننشده؛ بل وتنشده الإنسانية لإنقاذها، ولا يفوتني هنا أن أذكرك بضرورة تعليم الفتيات، فهن نصف الأمة أو يزدن، ومربيات نصفها الآخر، فإذا أهملت الفتاة ولم تتعلم ما ينفعها من العلوم حتى تستطيع أن تميز بين الخير والشر- شقيت وجرَّت الشقاء على كل من يعاشرها.
وإياك أن تفرقي بين أبنائك في المعاملة، فتعاملي البعض معاملة مختلفة عن معاملة البعض الآخر، فإن هذا مما يُوجِد بينهم الكراهية والنفور الذي نحن أحرص ما نكون على اقتلاعه من النفوس وإحلال المودة والوئام محله، فكوني حريصة على إشعارهم بالمساواة إلا في حالة مكافأة المحسن وحرمان المسيء، والله أسأل أن يلهمنا الرشد، ويهدينا سواء السبيل، ويوفقنا لما فيه خير الإنسانية جمعاء، إنه نعم المولى ونعم النصير.