بقلم الأستاذ:- عبد الرحمن يوسف بريك *
دولة دينية أم دولة مدنية ؟.................... ويحتدم النقاش ويتبادل الطرفان الآراء وربما الاتهامات، ويشحذ كل طرف عدته من الأدلة والقرائن التي تعضِّد موقفه وتدحض آراء الآخرين، ويبقى المواطن المصري – رغم حرارة النقاش – لاهيا عن كل ذلك بما يكفل له ولأولاده قوت يومه وفاتورة المياه والكهرباء وأجر الطبيب وثمن روشتة الدواء.
دولة دينية أم مدنية ؟.......... ذلك قدر النخبة المثقفة التي حملت على عاتقها همّ المواطن البسيط الذي تحدثنا عنه وأوكل لها مهمة تحديد أسلوب الحياة السياسية التي تحقق له متطلباته الحياتية.
دولة دينية أم مدنية ؟......... تعالوا ندخل معا حلبة الصراع لننفض الغبار المتصاعد ونجلي بعض الحقائق، ونجيب على الأطروحات المثارة: ما معنى الدولة ؟ وما ضرورة وجودها في الإسلام ؟ ثم:
ما الدولة الدينية ؟ وما الدولة المدنية ؟ وهل هما طرفا نقيض ؟ وهل الدولة في الإسلام دينية أم مدنية ؟ وهل تعمل الدولة المدنية بعيداً عن الإسلام ؟...... ثم: لماذا يخاف الكثيرون من الدولة الإسلامية ؟ وما وضع الأقليات غير المسلمة وما وضع المرأة في الدولة الإسلامية ؟ أسئلة كثيرة.......... ولكن هيا بنا إلى ساحة المناقشة فوراً:-
ما هي الدولة ؟ وما ضرورتها في الإسلام ؟
الدولة – ببساطة شديدة – هي تكوين اجتماعي يتضمن بصورة رئيسية مقومات أربعة: الأرض والبشر والأساس الأيديولوجي ( الفكري ) والزعامة أو الرئاسة، وعندما تلتحم هذه المقومات تنشأ الدولة، وفي المفهوم الحديث: الدولة عقد اجتماعي بين السلطة والشعب وظيفته الأساسية رعاية السلطة لمصالح الشعب بالنيابة عنه.
وإن كان الغرب قد استطاع – وهو يحكم بلاد المسلمين – أن يغرس في عقولهم فكرة أن الإسلام دين لا دولة وأن الدين ثابت بينما شئون الدولة متغيرة ينظمها العقل البشري وحده وفقا لتجاربه وظروفه المتطورة، إلا أن الدولة في الإسلام أصل من أصوله فالإسلام يؤمن بتنظيم الحياة ولا يؤمن بالفوضى، فمن الذي سينفِّذ أحكام الله ؟ ومَن سيبني المساجد ويأخذ الزكاة ويوزعها على مستحقيها ؟ ومن الذي سيقوم بإعداد الجيوش للجهاد ؟ ومن الذي سيحكم بين الرعية بالقسط ؟ أليست الدولة ممثلة في القائمين على الحكم فيها ؟ ونصوص الدين واضحة في ذلك الأمر أشد الوضوح، اقرأ قول الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ " وقوله تعالى " وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ "، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:" من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " وقال:" إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم " فكيف بأمة تعد بالملايين ؟ والرسول – صلى الله عليه وسلم – بمجرد وصوله المدينة وضع الدستور الذي ينظم أمور الدولة التي كان يعيش فيها المسلم واليهودي والمشرك، وكانت المدينة المنورة عاصمة الدولة الجديدة: فيها عقدت المعاهدات ومنها تحركت الجيوش وفي مسجدها ( مقر الحكم ) استقبلت الوفود، فطبيعة الإسلام أنه دين ودولة.... دين شامل وشريعة عامة.
ما مفهوم الدولة الدينية والدولة المدنية ؟
أما الدولة الدينية: فهو مصطلح وافد على الفكر الإسلامي، نشأ في أوروبا في العصور الوسطى حيث استند الملوك في استبدادهم وظلمهم على ما يسمى بـ" نظرية الحق الإلهي " التي تقر بأن سلطة الملك على وجه الأرض تضاهي سلطة الله في السماء، وما الملك إلا صورة الله الحية على الأرض، أما الشعب فعليه الطاعة العمياء والخضوع المطلق. يقول " لوباريه ": إن الملوك يتلقون صولجانهم من الله وحده، فهم سادة على ممالكهم " ويقول جيمس الأول ملك انجلترا:" ليس الملوك نواب الله على الأرض فقط ويُحملون على عرش الله، ولكن الله نفسه يدعوهم الآلهة ". أما رجال الكنيسة - وإن كانوا أقل فسادا من الملوك – فقد طاردوا العلماء وأعدموا المفكرين وحرقوا المثقفين باسم الدين، لذا ثارت أوروبا على هذه الدولة ونادت بالعلمانية وفصل الدين عن أمور الدولة، ومن هنا نشأ مصطلح الدولة المدنية بمفهومها الغربي بديلا عن الدولة الدينية التي تحدثنا عنها.
وأما الدولة المدنية: فهي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد وليس " علماء الدين " وفق التعبير الإسلامي أو " رجال الدين " وفق التعبير الغربي، وهي " الدولة التي أخذ أهلها بكل أسباب الحضارة وأسسوا حضارتهم على العلم بكل صوره وألوانه وعلى المعرفة التي تهديهم إلى ما يصلحهم ويرقى بهم في كل مجالات حياتهم" ( د. سيد طنطاوي: مجلة الأزهر)
هل الدولة في الإسلام دينية أم مدنية ؟
وفقا لتعريف الدولة وضرورتها في الإسلام، ووفقا للتعريف السابق لكل من الدولة الدينية والدولة المدنية يمكننا القول – بكل ثقة – أن الدولة في الإسلام دولة مدنية منذ نشأتها في عهد النبوة:
- فهي مدنية يختار الشعب فيها حكامه بالشورى وله حق تقويمهم إن حادوا، يقول الصديق أبو بكر -- رضي الله عنه – " لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فأعينوني وإن اعوججت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم "
- وهي مدنية لها مرجعية إسلامية فهي ليست حكومة دينية وليست دولة علمانية، وهنا تقول: إن الدول المدنية الحديثة لها مرجعية ثابتة، فأمريكا لها مرجعية ليبرالية، وروسيا والصين لهما مرجعية شيوعية أو اشتراكية، فلماذا تنقبض الصدور ويعلو الصراخ إذا قلنا إن الدولة في الإسلام لها مرجعية إسلامية ؟ "إن مرجعية الشريعة الإسلامية لا تلغي الاجتهاد ولا النظر فيما لا نص فيه أو فيما هو ظني الثبوت أو ظني الدلالة وهذا يشمل تسعة أعشار النصوص أو أكثر مما يحتمل معه الاجتهاد والفهم والاستنباط". ( د. يوسف القرضاوي )
- وهي مدنية ترعى الحريات وحقوق المواطنة " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"
- وهي مدنية ترعى الفضائل والمكارم وتحرم الفواحش وتصون مال رعيتها
- وهي مدنية يعيش على أرضها المسلم وغير المسلم، لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات، وإن شئت التأكد فارجع إلى الصحيفة التي تعد أول دستور للدولة الإسلامية في المدينة المنورة.
وأود أن أشير إلى أن الدول المسماة إسلامية اليوم ليست دولاً مدنية بل هي دولِ عسكرية أو بوليسية حتى وإن أخفت وجهها القبيح خلف قناع الانتخابات المزورة...... فالدولة المدنية لا تستخدم الجيوش إلا لقتال الأعداء ( وليس لقتال المسلمين )، ولا تستخدم الشرطة إلا لحماية أمن الناس وحقوقهم ( وليس لترويعهم ).
لماذا يخاف البعض من الدولة الإسلامية ؟
يخشى البعض من الدولة الإسلامية لأمور يحسبونها على الدولة الإسلامية وليست في واقع الأمر من طبيعة الدولة في الإسلام:-
فأولا: التخوف من الحكم الاستبدادي باسم الحق الإلهي: وأصحاب هذا الرأي مرجعيتهم في هذا التخوف صورة الدولة الدينية في أوروبا في العصور الوسطي التي تحدثنا عنها، ويقولون: إن الإسلاميين يؤمنون بالديمقراطية التي توصلهم للحكم حتى إذا استقر بهم المقام في الحكم ألغوا الديمقراطية وحكموا بالحق الإلهي، ونرد عليهم قائلين: إن الحاكم – في الإسلام – فرد من الأمة تختاره بمحض إرادتها ليرعى مصالحها فإن تقاعس عزلته الأمة التي اختارته، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: " وإذا تكاملت فيه – أي الحاكم – شروط العدالة تصح ولايته، فإذا انخرم منها وصف منع هذه الولاية لم يسمع له قول ولم ينفذ له حكم "، ويقول ابن حزم الأندلسي: " الإمام الواجب طاعته هو مَن قادنا بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره". ويقول د. القرضاوي:" إن الإسلام ليس ضد الديمقراطية بل يقبل بجوهرها، فالإسلام يقبل بحرية الحقوق لا حرية الفسوق، والشعب يختار مَن يمثله لا أن يفرض عليه الحكام فرضا ".
وثانيا: أي دولة إسلامية تريدون ؟ دولة طالبان أم السودان أم إيران ؟: ونقول: إن التجربة المشوهة لنظرية ما لا تعني نفي النظرية من أساسها، وإلا فقل لي: هل شهد العالم تطبيقاً نموذجياً لأي نظرية من نظريات الحكم البشري مثل الشيوعية أو الليبرالية أو غيرها من النظريات الوضعية ؟ إن رفع دولة ما شعار الإسلام دون أن يكون تطبيقها مطابقا لأحكام الشريعة وآراء العلماء الثقات ومراعيا فقه الواقع وترتيب الأولويات لهو تطبيق محكوم عليه منذ البدء بالفشل، وعندئذ يكون فشل التطبيق لا فشل النظرية، أما إذا أردنا نموذجا للدولة الإسلامية فأمامك دولة الإسلام في المدينة في عهدي النبوة والخلافة الراشدة، بل أمامك اليوم تجارب جزئية في بعض الدول مثل ماليزيا وبعض المؤسسات النقابية في مصر منذ سنوات قليلة، فليست دولة الإسلام الحقة هي دولة آيات الله في إيران أو الملالي في طالبان، وإن كانت إيران اليوم لها دستور مدني يضاهي أرقى الدساتير العالمية.
وثالثا: وضع الأقليات في الدولة المدنية الإسلامية: ونقول: إن الأقليات – في الدولة المدنية الإسلامية – مواطنون لهم نفس حقوق المسلم الحياتية وعليه نفس الواجبات، وانظر إلى صحيفة المدينة – أول دستور إسلامي – وكيف وضع الإسلام بنوداً تكفل حقوق المواطنة: " إن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصر على مَن دهم يثرب وأن النصر للمظلوم، وأن يثرب حرام جوفها لأجل هذه الصحيفة ". نصوص قاطعة قبل دساتير الدنيا بمئات السنين، أقرت المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الدين أو المعتقد........ في حين ذاق المسيحيون الأرثوذكس والبروتستانت الكثير من التنكيل في ظل الحكم تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في العصور الوسطى، نقطة أخرى وهي أن أمور السياسة مبنية على المصلحة فحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله، فإن كانت مصلحة الأمة قي تعيين غير مسلم ولاية ما بحيث يقوم بالعمل على خير وجه فلا شيء في ذلك، يقول ابن تيمية قي السياسة الشرعية:" يجب على ولي الأمر أن يولي كل عمل من أعمال العباد أصلح مَن يجده لذلك العمل لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:" من قلد رجلا على عصابة ( أي جماعة من الناس ) وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين " ( رواه الحاكم ).
رابعا: ما مكانة المرأة في الدولة المدنية الإسلامية ؟ أجاز أبو حنيفة تولي المرأة مناصب القضاء والسياسة وجواز ذلك لا يعني وجوبه ولزومه بل في ضوء مصلحة المرأة والأسرة والمجتمع، وإن كان الخلاف في تولي المرأة منصب رئاسة الدولة وما في حكمها فلأن طاقة المرأة لا تحتمل الصراع الذي تقتضيه تلك المسئولية الجسيمة، ورغم ذلك فقد قص القرآن قصة ملكة سبأ التي قادت قومها إلى خيري الدنيا والآخرة وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين..... فلا بأس إن وجدت مثل هذه المرأة – وهذه ليست قاعدة عامة – أن تتقلد أرفع المناصب في الدولة. أما باقي الحقوق الحياتية والمعيشية فلا يوجد تشريع أعطى للمرأة حقوقا كالتي أعطاها لها الإسلام من حق التملك والذمة المالية الخاصة وغيرها مما تعمر به كتب الفقه والسياسة الشرعية.
وأخيراً نقول: تلك هي الدولة المدنية الإسلامية، دولة دنيوية قراراتها بشرية.. وواجبها تبني أقصى درجات الموضوعية والواقعية في تسيير أمور المجتمع..... والحاكم في الإسلام لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية بل هو فرد عادي يستمد ولايته من الأمة التي اختارته وكيلا عنها بمحض إرادتها وهو مسئول أمامها في الدنيا فضلا عن مسئوليته أمام الله يوم القيامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب إسلامي.
Share |