بقلم: الشيخ أحمد أحمد جاد
الحمد لله وبعد، فإن الدولة الدينية التي يدعي فيها الحاكم أنه إله أو يحكم باسم الإله أو وكيلاً عن الله.. وهو شخص مقدس معصوم، أوامره إلهية، لا يخطئ ولا معقب لحكمه، له سلطة مطلقة، لا يعارضه أحد.. لا رقابة ولا أحزاب ولا شورى ولا مؤسسات.. هذه الدولة بهذه الصفات لا يعرفها الإسلام بل يرفضها.. وهذا أمر واضح لِمَن يعرف الإسلام.. ومع ذلك تجد البعض يكتب عن فزاعة الدولة الدينية في الإسلام.. فالقرآن العظيم يحدثنا عن فرعون الذي كان يدعي الألوهية (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24)) (النازعات) (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية 38) وما يراه هو الحق والهدى (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)) (غافر : من الآية 29).
والقرآن يحكي عن العرب قبل الإسلام.. كانوا يحلون ويحرمون من الزروع والنذور وذبائح الأنعام حسب أهوائهم، ويزعمون أن ذلك شرع الله وأن الله أمرهم بذلك.. بزعمهم! (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) (الأنعام: من الآية 136)، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28)) (الأعراف)، فهذا افتراء وكذب على الله بغير علم.
والقرآن كذلك يحكي ما كان عليه اليهود والنصارى من عبادة الأحبار والرهبان، فقد دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) (التوبة) قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه" (الترمذي: 3095)، قال الأحوذي في شرح الحديث: إذا أحلوا لهم شيئًا جعلوه حلالاً وهو مما حرمه الله" استحلوه" أي اعتقدوه حلالاً وإذا حرموا عليهم شيئًا، وهو مما أحله الله "حرموه" أي اعتقدوه حرامًا وفي رواية ".. بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم" راجع تفسير ابن كثير للآية.. فقد يظن البعض أن العبادة والاتباع يكونان بتقديم الشعائر، لكن العبادة تكون كذلك بالاعتقاد بأنهم آلهة، أو باتباع الشريعة في التحليل والتحريم.
وفي العصور الوسطى الأوروبية كانت الدولة الثيوقراطية التي تحكم باسم الحق الإلهي.. ونشأ الصراع بين الدين والبحث العلمي.. ثم ظهرت الثورة المعادية للدين.. وما زال البعض يحمل هذا العداء حتى في العصر الحديث، ويثير المخاوف من الدين والإخوان المسلمين.. بغير علم..
فالدولة الدينية يرفضها الإسلام؛ ذلك لأن الله تعالى حرَّم القول عليه بغير علم (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)) (الأعراف).. فرتب المحرمات أربع مراتب فبدأ بأسهلها وانتهى بأعظمها وهو القول على الله بغير علم، وهو أعظم المحرمات، وهو أصل الشرك والكفر وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة في الدين أصلها القول على الله بغير علم (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية 144).. ويقول تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)) (آل عمران)، أي ينسبون كلامهم إلى الله وهو كذب وافتراء على الله وهم يعلمون أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله.. ويقول أيضًا (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)) (النحل).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينبه أصحابه إذا حكموا بين الناس أن لا يقولوا هذا حكم الله، ففي الصحيح ".. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" "مسلم: 1731 وأبو داود وابن ماجه كلهم في الجهاد ورواه غيرهم.. ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكمًا حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "راجع إعلام الموقعين لابن القيم وتهذيب مدارج السالكين، دار الدعوة الطبعة الثانية ص 130".
وصفوة القول: أن الدولة الدينية بالصفات المذكورة آنفًا.. وادعاء الحاكم أنه يحكم باسم الإله، فهذا يرفضه الإسلام كما رأينا.
اللهم بصرنا بالحق إذا اختلف الناس.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين