بقلم: د. علي الحمادي
يُروَى أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خطب في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، مَنْ شئنا أعطيْنَا، ومَنْ شئنا منعْنَا، فلم يردَّ عليه أحد.
فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يردَّ عليه أحد.
فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممَّن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا.
فلما صلى أمر بالرجل فأُدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس! إني تكلمت في أول جمعة فلم يردَّ عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يردَّ علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلمَّا ردَّ هذا عليَّ أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم" (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم: 1790).
لو أن هذا الكلام قيل لحاكم من حكام العرب اليوم ماذا سيفعل بالقائل؟! وكيف سيتم التعامل معه؟! فلله درُّك يا معاوية.. ما أعقلك من حاكم!، وما أخشاك لله تعالى، لم تتكبر ولم تتفرعن ولم تأخذك العزة بالإثم، لم تنظر إلى شعبك على أنهم مجرد جرذان أو عبيد تفعل بهم ما تشاء، لم يتحجَّر قلبك ولم يتبلَّد إحساسك، إذْ كنت تفرح بالتذكرة، وتتأثر بالموعظة، فرحمك ربي رحمةً واسعةً.
إن الشعوب العربية صاحبة حق، وهي ليست متسوِّلةً حتى ترمي إليها الأنظمة بفتات وهي تظن أنها تحسن إليها، ولست والله أدرى لماذا يظهر هذا الفتات في هذا التوقيت؟! هل كان الحكام العرب في غفلة عن أمرهم، والآن استيقظوا وعلموا أن الشعوب تعاني؟ وإذا كان الأمر كذلك فما وظيفة الحكومات التي ترفع التقارير؟ وإذا كانت التقارير كاذبةً ومزوّرةً فلماذا لا تتم محاسبة أصحابها واتخاذ إجراء صارم في حقهم تحقيقًا لتطلعات الشعوب؟!
تروي كتب السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد قيس شكاه، بل إنه صلى الله عليه وسلم عزل معاذًا بن جبل رضي الله عنه عن اليمن لحكمة أرادها ولم يبدِها له.
كما تروي كتب التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديد الحساب لولاته وعماله، وبلغ من شدته في محاسبتهم أنه كان يعزل أحدهم إذا وجد أن الناس لا يريدونه، ولقد سُئِل في ذلك يومًا فقال: "هَانَ شيءٌ أُصْلِحُ به قومًا أن أُبدِلَهم أميرًا مكان أمير".
وقد عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ لأن الناس شَكوا منه، وقال: "إني لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة"، مما يَدّل على أن للحاكم المسلم أن يعزل وزيره أو عامله إذا شكا منه أهل ولايته.
وكان عمر رضي الله عنه مع شدته على الولاة، يسمع منهم، ويُصغي إلى حججهم، فإذا أقنعته الحجة لم يُخْفِ اقتناعه بها وثناءه على عامله بعدها، وقد بلغه يومًا أن عامله على حمص عُمير بن سعد قال- وهو على منبر حمص-: "لا يزال الإسلام منيعًا ما اشتدَّ السُلطان، وليست شدَّة السُلطان قتلاً بالسيف أو ضربًا بالسَوْط، ولكن قضاءً بالحق وأخذًا بالعدل"، فقال عمر فيه: "وددتُ لو أن لي رجلاً مثل عُمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين".
إذا كان هذا ثابتًا ومجرَّبًا من قبل مع أمتنا، فلماذا ترتكب بعض الأنظمة العربية كل هذه الجرائم والمجازر بحق شعوبها إذا ما أرادوا تغييرًا لحكومة فاسدة، أو برلمان مسخ مزيف، أو لدستور مفصَّل على مقاس الزعيم؟!
يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب في رعيته قائلاً: "ألا إني- والله- ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم؛ فمن فُعِل به شيء سوى ذلك فَلْيرفعه إليَّ؛ فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أَوَرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده، إذًا لأقصنه منه، أنَّى لي لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؟! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم" (أخرجه أحمد، برقم: 286، والغِياضُ: جمع غَيْضة؛ وهي الشجر المُلْتَفُّ؛ لأَنهم إذا نزَلُوها تفرَّقوا فيها فتمكََّن منهم العدوُّ، انظر لسان العرب، مادة: غيض).
إن أي حاكم ليس أقوى من شعبه، ومن ظن ذلك فهو واهم، والجميع قد رأى رأي العين الزعيمين التونسي والمصري، في الأيام الأولى من صراعهما من أجل البقاء، أرجعا الاضطرابات في بلديهما إلى تدخل خارجي وأجندات خاصة بدلاً من الاعتراف بأن لديهما مشكلات داخلية، وأن هناك وزراء وعمالاً فاسدين ينبغي تطهير البلاد منهم؛ لذا قاموا بمقاومة رغبات شعوبهم بالسجن والتعذيب والقهر والقتل، وفي النهاية خرج مئات الآلاف، بل ملايين، بل عشرات الملايين من شعبيهما إلى الشوارع تطالب بوضع نهاية لجرائمهما وحكميهما الفاسديْن، وقد كان.. والحمد لله.
------
* المشرف العام على الموقع الإلكتروني "إسلام تايم".